فصل: ثالثاً: بالنّسبة للحجّ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


تداخل

التّعريف

1 - التّداخل في اللّغة‏:‏ تشابه الأمور والتباسها ودخول بعضها في بعض‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ دخول شيء في شيء آخر بلا زيادة حجم ومقدار‏.‏ وتداخل العددين أن يعدّ أقلّهما الأكثر، أي يفنيه، مثل ثلاثة وتسعة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاندراج‏:‏

2 - الاندراج مصدر اندرج، ومن معانيه في اللّغة‏:‏ الانقراض‏.‏ ويستعمله الفقهاء بمعنى دخول أمر في أمر آخر أعمّ منه، كالحدث الأصغر مع الجنابة في الطّهارة‏.‏

ب - التّباين‏:‏

3 - معنى التّباين في اللّغة‏:‏ التّهاجر والتّباعد‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ عبارة عمّا إذا نسب أحد الشّيئين إلى الآخر لم يصدق أحدهما على شيء ممّا صدق عليه الآخر، فإن لم يتصادقا على شيء أصلاً فبينهما التّباين الكلّيّ، وإن صدقا في الجملة فبينهما التّباين الجزئيّ‏.‏ كالحيوان والأبيض وبينهما العموم من وجه‏.‏ والفرق بينه وبين التّداخل واضح، إذ التّداخل إنّما يكون في الأمور المتشابهة والمتقاربة، أمّا التّباين فيكون في الأمور المتفاوتة كلّيّاً أو جزئيّاً‏.‏

ج - التّماثل‏:‏

4 - التّماثل‏:‏ مصدر تماثل، ومادّة مثل في اللّغة تأتي بمعنى الشّبه، وبمعنى نفس الشّيء وذاته‏.‏ والفقهاء يستعملون التّماثل بمعنى التّساوي، كما في تماثل العددين في مسائل الإرث‏.‏

د - التّوافق‏:‏

5 - معنى التّوافق في اللّغة‏:‏ الاتّفاق والتّظاهر‏.‏

وتوافق العددين‏:‏ ألاّ يعدّ أقلّهما الأكثر، ولكن يعدّهما عدد ثالث، كالثّمانية مع العشرين، يعدّهما أربعة، فهما متوافقان بالرّبع، لأنّ العدد العادّ مخرج لجزء الوفق‏.‏

محلّ التّداخل

6 - ذكر الحنفيّة أنّ التّداخل‏:‏ إمّا أن يكون في الأسباب‏:‏ وإمّا أن يكون في الأحكام‏.‏ والأليق بالعبادات الأوّل، وبالعقوبات الثّاني، وذلك ما جاء في العناية‏:‏ أنّ التّداخل في العبادات إذا كان في الحكم دون السّبب كانت الأسباب باقيةً على تعدّدها، فيلزم وجود السّبب الموجب للعبادة بدون العبادة، وفي ذلك ترك الاحتياط فيما يجب فيه الاحتياط، فقلنا بتداخل الأسباب فيها ليكون جميعها بمنزلة سبب واحد ترتّب عليه حكمه إذا وجد دليل الجمع وهو اتّحاد المجلس، وأمّا العقوبات فليس ممّا يحتاط فيها، بل في درئها احتياط فيجعل التّداخل في الحكم، ليكون عدم الحكم مع وجود الموجب مضافاً إلى عفو اللّه وكرمه، فإنّه هو الموصوف بسبوغ العفو وكمال الكرم‏.‏

وفائدة ذلك تظهر فيما لو تلا آية سجدة في مكان فسجدها، ثمّ تلاها فيه مرّات فإنّه يكفيه تلك الواقعة أوّلاً، إذ لو لم يكن التّداخل في السّبب لكانت التّلاوة الّتي بعد السّجدة سبباً، وحكمه قد تقدّم، وذلك لا يجوز‏.‏ وأمّا في العقوبات‏:‏ فإنّه لو زنى، ثمّ زنى ثانيةً قبل أن يحدّ الأولى، فإنّ عليه حدّاً واحداً، بخلاف ما لو زنى فحدّ، ثمّ زنى فإنّه يحدّ ثانياً‏.‏

وذكر صاحب الفروق من المالكيّة أنّ التّداخل محلّه الأسباب لا الأحكام، ولم يفرّق في ذلك بين الطّهارات والعبادات، كالصّلاة والصّيام والكفّارات والحدود والأموال‏.‏

بل ذكر أنّ الحدود المتماثلة إن اختلفت أسبابها كالقذف وشرب الخمر، أو تماثلت كالزّنى مراراً والسّرقة مراراً والشّرب مراراً قبل إقامة الحدّ عليه، فإنّها من أولى الأسباب بالتّداخل، لأنّ تكرّرها مهلك‏.‏ ويظهر ممّا ذكره الحنابلة في الطّهارات وكفّارة الصّيام، فيما لو تكرّر منه الجماع في يوم واحد قبل التّكفير، وفي الحدود إن كانت من جنس واحد أو أجناس أنّ التّداخل عندهم أيضاً إنّما يكون في الأسباب دون الأحكام‏.‏

هذا ويظهر ممّا ذكره الزّركشيّ في المنثور أنّ التّداخل إنّما يكون في الأحكام دون الأسباب، ولا فرق في ذلك بين العبادات والعقوبات والإتلافات‏.‏

آثار التّداخل الفقهيّة ومواطنه

7 - ذكر القرافيّ في الفروق أنّ التّداخل وقع في الشّريعة في ستّة أبواب، وهي الطّهارات والصّلوات والصّيام والكفّارات والحدود والأموال‏.‏

وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّه يدخل في ضروب، وهي‏:‏ العبادات والعقوبات والإتلافات‏.‏ وذكر السّيوطيّ وابن نجيم أنّه إذا اجتمع أمران من جنس واحد، ولم يختلف مقصودهما، دخل أحدهما في الآخر غالباً، كالحدث مع الجنابة‏.‏ هذا والتّداخل يذكره الفقهاء في الطّهارة والصّلاة والصّوم والحجّ، والفدية والكفّارة والعدد، والجناية على النّفس والأطراف والدّيات، والحدود والجزية، وفي حساب المواريث‏.‏ وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ الطّهارات

8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من سنن الغسل‏:‏ الوضوء قبله، لأنّه صفة غسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما ونصّ حديث عائشة رضي الله عنها «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثمّ يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثمّ يتوضّأ وضوءه للصّلاة، ثمّ يأخذ الماء ويدخل أصابعه في أصول الشّعر، حتّى إذا رأى أن قد استبرأ، حفن على رأسه ثلاث حثيات، ثمّ أفاض على سائر جسده، ثمّ غسل رجليه»‏.‏

هذا عن تحصيل السّنّة‏.‏ أمّا الأجزاء فيرى الحنفيّة والمالكيّة أنّ الطّهارات كالوضوء والغسل إذا تكرّرت أسبابهما المختلفة كالحيض والجنابة، أو المتماثلة كالجنابتين، والملامستين، فإنّ تلك الأسباب تتداخل، فيكفي في الجنابتين، أو في الحيض والجنابة، أو في الجنابة والملامسة غسل واحد، لا يحتاج بعده إلى وضوء،لاندراج سببه في السّبب الموجب للغسل‏.‏ وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ الفعلين في العبادات، إن كانا في واجب ولم يختلفا في القصد، تداخلا، كغسل الحيض مع الجنابة، فإذا أجنبت ثمّ حاضت، كفى لهما غسل واحد‏.‏

هذا وقد ذكر الشّافعيّة والحنابلة في تداخل الوضوء والغسل إذا وجبا عليه - كما لو أحدث ثمّ أجنب أو عكسه - أربعة أوجه، انفرد الشّافعيّة بأوّلها، واتّفقوا مع الحنابلة في الباقي‏.‏ أحدهما، وهو المذهب عند الشّافعيّة، وقد انفردوا فيه عن الحنابلة، لكنّ ابن تيميّة اختاره‏:‏ أنّه يكفيه الغسل، نوى الوضوء معه أو لم ينوه، غسل الأعضاء مرتّبةً أم لا، لأنّهما طهارتان، فتداخلتا‏.‏

والثّاني، وذهب إليه أيضاً الحنابلة في إحدى الرّوايات عن أحمد، وهو من مفردات المذهب عندهم‏:‏ أنّه يجب عليه الوضوء والغسل، لأنّهما حقّان مختلفان يجبان بسببين مختلفين، فلم يدخل أحدهما في الآخر كحدّ الزّنى والسّرقة، فإن نوى الوضوء دون الغسل أو عكسه، فليس له غير ما نوى‏.‏

الثّالث، واختاره أيضاً أبو بكر من الحنابلة، وقطع به في المبهج‏:‏ أنّه يأتي بخصائص الوضوء، بأن يتوضّأ مرتّباً، ثمّ يغسل سائر البدن، لأنّهما متّفقان في الغسل ومختلفان في التّرتيب، فما اتّفقا فيه تداخلا، وما اختلفا فيه لم يتداخلا‏.‏

الرّابع، وهو ما حكاه أبو حاتم القزوينيّ من الشّافعيّة، وهو المذهب مطلقاً عند الحنابلة، وعليه جماهير أصحابهم، وقطع به كثير منهم‏:‏ أنّهما يتداخلان في الأفعال دون النّيّة، لأنّهما عبادتان متجانستان صغرى وكبرى، فدخلت الصّغرى في الكبرى في الأفعال دون النّيّة، كالحجّ والعمرة‏.‏ هذا، وجاء في الإنصاف عن الدّينوريّ في وجه حكاه‏:‏ أنّه إن أحدث ثمّ أجنب فلا تداخل، وجاء فيه أيضاً أنّ من أحدث ثمّ أجنب، أو أجنب ثمّ أحدث يكفيه الغسل على الأصحّ، وهو مماثل لما حكاه الشّافعيّة في الوجه الأوّل‏.‏

ثانياً‏:‏ التّداخل في الصّلاة وله أمثلة

أ - تداخل تحيّة المسجد وصلاة الفرض‏:‏

9 - ذكر ابن نجيم في الأشباه، والقرافيّ في الفروق‏:‏ أنّ تحيّة المسجد تدخل في صلاة الفرض مع تعدّد سببهما، فإنّ سبب التّحيّة هو دخول المسجد، وسبب الظّهر مثلاً هو الزّوال، فيقوم سبب الزّوال مقام سبب الدّخول، فيكتفي به‏.‏

وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ التّداخل في العبادات إن كان في مسنون، وكان ذلك المسنون من جنس المفعول، دخل تحته، كتحيّة المسجد مع صلاة الفرض‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ تحيّة المسجد تدخل في الفرض والسّنّة الرّاتبة‏.‏

ب - تداخل سجود السّهو‏:‏

10 - جاء صريحاً في حاشية ابن عابدين - من كتب الحنفيّة - فيمن تكرّر سهوه بحيث أدّى ذلك إلى ترك جميع واجبات الصّلاة، فإنّه لا يلزمه إلاّ سجدتان‏.‏

وقريب من ذلك ما جاء في المدوّنة من كتب المالكيّة فيمن نسي تكبيرةً أو تكبيرتين، أو نسي ‏"‏ سمع اللّه لمن حمده ‏"‏ مرّةً أو مرّتين، أو نسي التّشهّد أو التّشهّدين‏.‏

وجاء في المنثور والأشباه من كتب الشّافعيّة أنّ جبرانات الصّلاة تتداخل لاتّحاد الجنس، فسجود السّهو وإن تعدّد سجدتان، لأنّ القصد بسجود السّهو إرغام أنف الشّيطان، وقد حصل بالسّجدتين آخر الصّلاة، بخلاف جبرانات الإحرام فلا تتداخل، لأنّ القصد جبر النّسك وهو لا يحصل إلاّ بالتّعدّد‏.‏ وقال صاحب المغني‏:‏ إذا سها سهوين أو أكثر من جنس كفاه سجدتان للجميع، لا نعلم أحداً خالف فيه‏.‏ وإن كان السّهو من جنسين، فكذلك، حكاه ابن المنذر قولاً لأحمد، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم‏:‏ النّخعيّ والثّوريّ ومالك واللّيث والشّافعيّ وأصحاب الرّأي‏.‏ وذكر أبو بكر من الحنابلة فيه وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ ما ذكرنا‏.‏ والثّاني‏:‏ يسجد سجودين، قال الأوزاعيّ وابن أبي حازم وعبد العزيز بن أبي سلمة‏:‏ إذا كان عليه سجودان، أحدهما قبل السّلام، والآخر بعده سجدهما في محلّيهما، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لكلّ سهو سجدتان»‏.‏ وهذان سهوان، فلكلّ واحد منهما سجدتان،ولأنّ كلّ سهو يقتضي سجوداً، وإنّما تداخلا في الجنس الواحد لاتّفاقهما، وهذان مختلفان‏.‏

ج - التّداخل في سجود التّلاوة‏:‏

11 - ذكر الحنفيّة أنّ سجدة التّلاوة مبناها على التّداخل دفعاً للحرج‏.‏

والتّداخل فيها تداخل في السّبب دون الحكم، لأنّها عبادة، فتنوب الواحدة عمّا قبلها وعمّا بعدها، ولا يتكرّر وجوبها إلاّ باختلاف المجلس أو اختلاف التّلاوة ‏(‏أي الآية‏)‏ أو السّماع، فمن تلا آيةً واحدةً في مجلس واحد مراراً تكفيه سجدة واحدة وأداء السّجدة بعد القراءة الأولى أولى‏.‏ والأصل في ذلك ما روي «أنّ جبريل عليه السلام كان ينزل بالوحي فيقرأ آية السّجدة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يسمع ويتلقّن، ثمّ يقرأ على أصحابه، وكان لا يسجد إلاّ مرّةً واحدةً»‏.‏

وإن تلاها في غير الصّلاة فسجد، ثمّ دخل في الصّلاة فتلاها فيها، سجد أخرى‏.‏ ولو لم يسجد أوّلاً كفته واحدة، لأنّ الصّلاتيّة أقوى من غيرها، فتستتبع غيرها وإن اختلف المجلس‏.‏ ولو لم يسجد في الصّلاة سقطتا في الأصحّ‏.‏

وأمّا المالكيّة فقاعدة المذهب عندهم تكرير سجدة التّلاوة، إن كرّر حزباً فيه سجدةً، ولا تكفيه السّجدة الأولى، لوجود المقتضي للسّجود، باستثناء المعلّم والمتعلّم فقط عند الإمام مالك وابن القاسم، واختاره المازريّ، خلافاً لأصبغ وابن عبد الحكم القائلين بعدم السّجود عليهما ولا في أوّل مرّة‏.‏

ومحلّ الخلاف كما في حاشية الدّسوقيّ إذا حصل التّكرير لحزب فيه سجدة، وأمّا قارئ القرآن بتمامه فإنّه يسجد جميع سجداته في غير الصّلاة وفي الصّلاة، حتّى لو قرأه كلّه في ركعة واحدة، سواء أكان معلّماً أم متعلّماً اتّفاقاً‏.‏ وجاء في الرّوضة وغيرها من كتب الشّافعيّة‏:‏ أنّه إذا قرأ آيات السّجدات في مكان واحد، سجد لكلّ واحدة، ومثل ذلك قراءته الآية الواحدة في مجلسين‏.‏ فلو كرّر الآية الواحدة في المجلس الواحد نظر، إن لم يسجد للمرّة الأولى كفاه سجود واحد، وإن سجد للأولى فثلاثة أوجه‏:‏ أصحّها يسجد مرّةً أخرى لتجدّد السّبب، والثّاني تكفيه الأولى، والثّالث إن طال الفصل سجد أخرى، وإلاّ فتكفيه الأولى‏.‏ ولو كرّر الآية الواحدة في الصّلاة، فإن كان في ركعة فكالمجلس الواحد، وإن كان في ركعتين فكالمجلسين‏.‏ ولو قرأ مرّةً في الصّلاة، ومرّةً خارجها في المجلس الواحد وسجد للأولى، فلم ير النّوويّ فيه نصّاً للأصحاب، وإطلاقهم يقتضي طرد الخلاف فيه‏.‏

وتذكر كتب الحنابلة أيضاً أنّ سجود التّلاوة يتكرّر بتكرّر التّلاوة، حتّى في طواف مع قصر فصل‏.‏ وذكر صاحب الإنصاف وجهين في إعادة سجود من قرأ بعد سجوده، وكذا يتوجّه في تحيّة المسجد إن تكرّر دخوله‏.‏

وقال ابن تميم‏:‏ وإن قرأ سجدةً فسجد، ثمّ قرأها في الحال مرّةً أخرى، لا لأجل السّجود، فهل يعيد السّجود ‏؟‏ على وجهين‏.‏ وقال القاضي في تخريجه‏:‏ إن سجد في غير الصّلاة ثمّ صلّى فقرأها فيها أعاد السّجود، وإن سجد في صلاة ثمّ قرأها في غير صلاة لم يسجد‏.‏ وقال‏:‏ إذا قرأ سجدةً في ركعة فسجد، ثمّ قرأها في الثّانية، فقيل يعيد السّجود، وقيل لا‏.‏

ثالثاً‏:‏ تداخل صوم رمضان وصوم الاعتكاف

12 - من المقرّر عند المالكيّة والحنفيّة، وفي رواية عن أحمد اشتراط الصّوم لصحّة الاعتكاف مطلقاً، وبناءً على ذلك ذكر القرافيّ أنّ صوم الاعتكاف يدخل في صوم رمضان، وذلك لأنّ الاعتكاف سبب لتوجّه الأمر بالصّوم، ورؤية هلال رمضان هي سبب توجّه الأمر بصوم رمضان، فيدخل السّبب الّذي هو الاعتكاف في السّبب الآخر وهو رؤية الهلال فيكتفي به ويتداخل الاعتكاف ورؤية الهلال‏.‏

رابعاً‏:‏ تداخل الطّواف والسّعي للقارن

13 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والإمام أحمد فيما اشتهر عنه إلى أنّ من قرن بين الحجّ والعمرة في إحرام واحد، فإنّه يطوف لهما طوافاً واحداً، ويسعى لهما سعياً واحداً، وهو قول ابن عمر وجابر بن عبد اللّه رضي الله عنهم، وبه قال عطاء بن أبي رباح والحسن ومجاهد وطاوس وإسحاق وأبو ثور، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع فأهللنا بعمرة‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ الحديث‏.‏ وفيه‏:‏

«وأمّا الّذين جمعوا بين الحجّ والعمرة فإنّما طافوا طوافاً واحداً»‏.‏ ولأنّ الحجّ والعمرة عبادتان من جنس واحد، فإذا اجتمعتا دخلت أفعال الصّغرى في الكبرى كالطّهارتين‏.‏

وأيضاً فإنّ الجامع بينهما ناسك يكفيه حلق واحد ورمي واحد، فكفاه طواف واحد وسعي واحد كالفرد‏.‏ وذهب الحنفيّة والإمام أحمد في رواية أخرى لم تشتهر إلى أنّ عليه طوافين وسعيين، وقد روي هذا القول عن عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال الشّعبيّ وابن أبي ليلى مستدلّين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ للّه‏}‏ وتمامهما أن يأتي بأفعالهما على الكمال بلا فرق بين القارن وغيره‏.‏

وبما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «من جمع بين الحجّ والعمرة فعليه طوافان» ولأنّهما نسكان، فكان لهما طوافان، كما لو كانا منفردين‏.‏ وأثر هذا الخلاف يظهر في القارن إذا قتل صيداً فإنّه يلزمه جزاء واحد عند القائلين بالتّداخل‏.‏

خامساً‏:‏ تداخل الفدية

14 - ذكر الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الفدية تتداخل‏.‏ وقد صرّح الحنفيّة بأنّ من قلّم أظافر يديه ورجليه في مجلس واحد، وهو محرم، فإنّ عليه دماً واحداً، لأنّها من المحظورات، لما فيه من قضاء التّفث، وهي من نوع واحد، فلا يزاد على دم واحد‏.‏

وإن كان قلّمها في مجالس، فكذلك عند محمّد، لأنّ مبناها على التّداخل ككفّارة الفطر‏.‏ وعند أبي حنيفة وأبي يوسف يجب لكلّ يد دم، ولكلّ رجل دم إذا تعدّد المجلس، لأنّ الغالب في الفدية معنى العبادة فيتقيّد التّداخل باتّحاد المجلس كما في آية السّجدة، ولأنّ هذه الأعضاء متباينة حقيقةً، وإنّما جعلت الجناية - وهي تقليم الأظافر في مجلس واحد - جنايةً واحدةً في المعنى لاتّحاد المقصود وهو الرّفق‏.‏

وصرّح الشّافعيّة بمثل ذلك فيمن فعل شيئاً من مقدّمات الجماع، وجامع بعده، فقد ذكروا أنّ فدية المقدّمة تدخل في البدنة الواجبة جزاءً عن الجماع‏.‏

وقريب من ذلك ما ذكره الحنابلة فيمن حلق شعر رأسه وبدنه، بأنّ عليه فديةً واحدةً في أصحّ الرّوايتين عن أحمد، وهو الصّحيح من المذهب أيضاً، لأنّ شعر الرّأس والبدن واحد، وفي رواية أخرى عنه‏:‏ إنّ لكلّ منهما حكماً منفرداً‏.‏ وكذا لو لبس أو تطيّب في ثوبه وبدنه ففيه الرّوايتان والمنصوص عن أحمد أنّ عليه فديةً واحدةً‏.‏

وأمّا المالكيّة فإنّهم وإن لم يصرّحوا بتداخل الفدية، إلاّ أنّهم أوردوا أربع صور تتّحد فيها الفدية وهي أن يظنّ الفاعل الإباحة‏:‏

أ - بأن يعتقد أنّه خرج من إحرامه فيفعل أموراً كلّ منها يوجب الفدية‏.‏

ب - أو يتعدّد موجبها من لبس وتطيّب وقلم أظفار وقتل دوابّ بفور‏.‏

ج - أو يتراخى ما بين الفعلين، لكنّه عند الفعل الأوّل أو إرادته نوى تكرار الفعل الموجب لها‏.‏

د - أو يتراخى ما بين الفعلين، إلاّ أنّه لم ينو التّكرار عند الفعل الأوّل منهما، لكنّه قدّم ما نفعه أعمّ، كتقديمه لبس الثّوب على لبس السّراويل‏.‏

وتفصيله في محظورات الحجّ من كتب الفقه‏.‏

سادساً‏:‏ تداخل الكفّارات

أ - تداخلها في إفساد صوم رمضان بالجماع‏:‏

15 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب كفّارة واحدة على من تكرّر منه الجماع في يوم واحد من أيّام رمضان، لأنّ الفعل الثّاني لم يصادف صوماً، وإنّما الخلاف بينهم فيمن تكرّر منه ذلك الفعل في يومين، أو في رمضانين، ولم يكفّر للأوّل، فذهب محمّد من الحنفيّة، والحنابلة في وجه، والزّهريّ والأوزاعيّ إلى أنّه تكفيه كفّارة واحدة، لأنّها جزاء عن جناية تكرّر سببها قبل استيفائها، فتتداخل كالحدّ‏.‏ وذهب الحنفيّة في ظاهر الرّواية الّذي اختاره بعضهم للفتوى وهو الصّحيح، والمالكيّة والشّافعيّة، وهو أيضاً المذهب عند الحنابلة‏:‏ إلى أنّ الكفّارة الواحدة لا تجزئه، بل عليه كفّارتان، لأنّ كلّ يوم عبادة منفردة، فإذا وجبت الكفّارة بإفساده لم تتداخل كالعمرتين والحجّتين، والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏كفّارة‏)‏‏.‏

ب - تداخل الكفّارات في الأيمان‏:‏

16 - لا خلاف في أنّ من حلف يميناً فحنث فيها وأدّى ما وجب عليه من الكفّارة، أنّه لو حلف يميناً أخرى وحنث فيها تجب عليه كفّارة أخرى، ولا تغني الكفّارة الأولى عن كفّارة الحنث في هذه اليمين الثّانية، وإنّما الخلاف فيمن حلف أيماناً وحنث فيها‏.‏ ثمّ أراد التّكفير، هل تتداخل الكفّارات فتجزئه كفّارة واحدة ‏؟‏ أو لا تتداخل فيجب عليه لكلّ يمين كفّارة ‏؟‏ تتداخل الكفّارات على أحد القولين عند الحنفيّة، وأحد الأقوال عند الحنابلة، ولا تتداخل عند المالكيّة ولا الشّافعيّة، وتفصيل ذلك في الكفّارات‏.‏

سابعاً‏:‏ تداخل العدّتين

17 - معنى التّداخل في العدد‏:‏ أن تبتدئ المرأة عدّةً جديدةً وتندرج بقيّة العدّة الأولى في العدّة الثّانية، والعدّتان إمّا أن تكونا من جنس واحد لرجل واحد أو رجلين، وإمّا أن تكونا من جنسين كذلك أي لرجل واحد أو رجلين، وعلى هذا فإنّ المرأة إذا لزمها عدّتان من جنس واحد، وكانتا لرجل واحد، فإنّهما تتداخلان عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لاتّحادهما في الجنس والقصد‏.‏ مثال ذلك‏:‏ ما لو طلّق زوجته ثلاثاً، ثمّ تزوّجها في العدّة ووطئها، وقال‏:‏ ظننت أنّها تحلّ لي‏.‏ أو طلّقها بألفاظ الكناية، فوطئها في العدّة، فإنّ العدّتين تتداخلان، فتعتدّ ثلاثة أقراء ابتداءً من الوطء الواقع في العدّة، ويندرج ما بقي من العدّة الأولى في العدّة الثّانية‏.‏ أمّا إذا كانتا لرجلين فإنّهما تتداخلان عند الحنفيّة، لأنّ المقصود التّعرّف على فراغ الرّحم، وقد حصل بالواحدة فتتداخلان‏.‏

ومثاله‏:‏ المتوفّى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة، فهاتان عدّتان من رجلين ومن جنسين‏.‏ ومثال العدّتين من جنس واحد ومن رجلين‏:‏ المطلّقة إذا تزوّجت في عدّتها فوطئها الثّاني، وفرّق بينهما، تتداخلان وتعتدّ من بدء التّفريق، ويندرج ما بقي من العدّة الأولى في العدّة الثّانية‏.‏ وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فلا تتداخلان، لأنّهما حقّان مقصودان لآدميّين، فلم يتداخلا كالدّينين، ولأنّ العدّة احتباس يستحقّه الرّجال على النّساء، فلم يجز أن تكون المرأة المعتدّة في احتباس رجلين كاحتباس الزّوجة‏.‏

وأمّا إذا اختلفت العدّتان في الجنس، وكانتا لرجلين، فإنّهما تتداخلان أيضاً عند الحنفيّة، لأنّ كلاً منهما أجل، والآجال تتداخل‏.‏

ولا تداخل بينهما عند الشّافعيّة والحنابلة، لأنّ كلاً منهما حقّ مقصود للآدميّ، فعليها أن تعتدّ للأوّل لسبقه، ثمّ تعتدّ للثّاني، ولا تتقدّم عدّة الثّاني على عدّة الأوّل إلاّ بالحمل‏.‏

وإن كانتا من جنسين لشخص واحد تداخلتا أيضاً عند الحنفيّة، وفي أصحّ الوجهين عند الشّافعيّة، وفي أحد الوجهين عند الحنابلة، لأنّهما لرجل واحد‏.‏ ولا تداخل بينهما على مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة، وعلى الوجه الثّاني عند الحنابلة لاختلافهما في الجنس‏.‏

وأمّا المالكيّة فقد لخصّ ابن جزيّ مذهبهم في تداخل العدد بقوله‏:‏ فروع في تداخل العدّتين‏:‏ الفرع الأوّل‏:‏ من طلقت طلاقاً رجعيّاً، ثمّ مات زوجها في العدّة انتقلت إلى عدّة الوفاة، لأنّ الموت يهدم عدّة الرّجعيّ بخلاف البائن‏.‏

الفرع الثّاني‏:‏ إن طلّقها رجعيّاً ثمّ ارتجعها في العدّة، ثمّ طلّقها، استأنفت العدّة من الطّلاق الثّاني، سواء كان قد وطئها أم لا، لأنّ الرّجعة تهدم العدّة، ولو طلّقها ثانيةً في العدّة من غير رجعة بَنَتْ اتّفاقاً، ولو طلّقها طلقةً ثانيةً ثمّ راجعها في العدّة أو بعدها، ثمّ طلّقها قبل المسيس بَنَتْ على عدّتها الأولى، ولو طلّقها بعد الدّخول استأنفت من الطّلاق الثّاني‏.‏

الفرع الثّالث‏:‏ إذا تزوّجت في عدّتها من الطّلاق، فدخل بها الثّاني، ثمّ فرّق بينهما، اعتدّت بقيّة عدّتها من الأوّل، ثمّ اعتدّت من الثّاني، وقيل‏:‏ تعتدّ من الثّاني وتجزيها عنهما، وإن كانت حاملاً فالوضع يجزي عن العدّتين اتّفاقاً‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏عدّة‏)‏‏.‏

ثامناً‏:‏ تداخل الجنايات على النّفس والأطراف

18 - ذكر الحنفيّة أنّ الجنايات على النّفس والأطراف إذا تعدّدت، كما لو قطع عضواً من أعضائه، ثمّ قتله، فإنّها لا تتداخل إلاّ في حالة اجتماع جنايتين على واحد، ولم يتخلّلهما برء، وصورها ستّ عشرة، كما ذكر ابن نجيم في الأشباه، لأنّه إذا قطع ثمّ قتل، فإمّا أن يكونا عمدين أو خطأين، أو أحدهما عمداً والآخر خطأً، وكلّ من الأربعة إمّا على واحد أو اثنين، وكلّ من الثّمانية‏.‏ إمّا أن يكون الثّاني قبل البرء أو بعده‏.‏

وذكر المالكيّة أنّ الجناية على الطّرف تندرج في الجناية على النّفس، أي في القصاص، إن تعمّدها الجاني، سواء أكان الطّرف للمقتول أم لغيره بأن قطع يد شخص عمداً، وفقأ عين آخر عمداً، فيقتل فقط ولا يقطع شيء من أطرافه ولا تفقأ عينه، إن لم يقصد الجاني بجنايته على الطّرف مثلةً - أي تمثيلاً وتشويهاً - فإن قصدها فلا يندرج الطّرف في القتل، فيقتصّ من الطّرف، ثمّ يقتل‏.‏

أمّا إذا لم يتعمّد الجاني الجناية على الطّرف، فإنّها لا تندرج في الجناية على النّفس، كما لو قطع يد شخص خطأً، ثمّ قتله عمداً عدواناً، فإنّه يقتل به، ودية اليد على عاقلته‏.‏

وذكر الشّافعيّة أنّ الجناية على النّفس والأطراف إذا اتّفقتا في العمد أو الخطأ، وكانت الجناية على النّفس بعد اندمال الجناية على الطّرف وجبت دية الطّرف بلا خلاف‏.‏ أمّا إذا كانت الجناية على النّفس قبل اندمال الجناية على الطّرف فوجهان، أصحّهما‏:‏ دخول الجناية على الطّرف في الجناية على النّفس، بحيث لا يجب إلاّ ما يجب في النّفس كالسّراية‏.‏ وثانيهما‏:‏ عدم التّداخل بين الجنايتين، خرّجه ابن سريج، وبه قال الإصطخريّ، واختاره إمام الحرمين‏.‏ أمّا إذا كانت إحداهما عمداً والأخرى خطأً، وقلنا بالتّداخل عند الاتّفاق، فهنا وجهان‏:‏ أحدهما التّداخل أيضاً‏.‏ وأصحّهما‏:‏ لا، لاختلافهما‏.‏

والحنابلة يقولون‏:‏ التّداخل في القصاص في إحدى الرّوايتين عن أحمد فيما لو جرح رجل رجلاً، ثمّ قتله قبل اندمال جرحه، واختار الوليّ القصاص، فعلى هذه الرّواية ليس للوليّ إلاّ ضرب عنقه بالسّيف‏.‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا قَوَدَ إلاّ بالسّيفِ»، وليس له جرحه أو قطع طرفه، لأنّ القصاص أحد بدلي النّفس، فدخل الطّرف في حكم الجملة كالدّية‏.‏ والرّواية الثّانية‏:‏ أنّ للوليّ أن يفعل بالجاني مثلما فعل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنْ عَاقَبْتُم فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُم به‏}‏‏.‏ أمّا إذا عفا الوليّ عن القصاص، أو صار الأمر إلى الدّية لكون الفعل خطأً أو شبه عمد، فالواجب حينئذ دية واحدة، لأنّه قتل قبل استقرار الجرح، فدخل أرش الجراحة في أرش النّفس والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏جناية‏)‏‏.‏

تاسعاً‏:‏ تداخل الدّيات

19 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الدّيات قد تتداخل، فيدخل الأدنى منها في الأعلى، ومن ذلك دخول دية الأعضاء والمنافع في دية النّفس، ودخول أرش الموضحة المذهبة للعقل في دية العقل، ودخول حكومة الثّدي في دية الحلمة إلى غير ذلك من الفروع‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏دية‏)‏‏.‏

عاشراً‏:‏ تداخل الحدود

20 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحدود - كحدّ الزّنى والسّرقة والشّرب - إذا اتّفقت في الجنس والموجب أي الحدّ فإنّها تتداخل، فمن زنى مراراً، أو سرق مراراً، أو شرب مراراً، أقيم عليه حدّ واحد للزّنى المتكرّر، وآخر للسّرقة المتكرّرة‏.‏ وآخر للشّرب المتكرّر، لأنّ ما تكرّر من هذه الأفعال هو من جنس ما سبقه، فدخل تحته‏.‏ ومثل ذلك حدّ القذف إذا قذف شخصاً واحداً مراراً، أو قذف جماعةً بكلمة واحدة، فإنّه يكتفي فيه بحدّ واحد اتّفاقاً، بخلاف ما لو قذف جماعةً بكلمات، أو خصّ كلّ واحد منهم بقذف‏.‏

واتّفق الفقهاء أيضاً على أنّ من زنى أو سرق أو شرب، فأقيم عليه الحدّ، ثمّ صدر منه أحد هذه الأفعال مرّةً أخرى، فإنّه يحدّ ثانياً، ولا يدخل تحت الفعل الّذي سبقه، واتّفقوا أيضاً على عدم التّداخل بين هذه الأفعال عند اختلافها في الجنس والقدر الواجب فيها، فمن زنى وسرق وشرب حدّ لكلّ فعل من هذه الأفعال، لاختلافها في الجنس والقدر الواجب فيها، فلا تتداخل‏.‏ أمّا إذا اتّحدت في القدر الواجب واختلفت في الجنس، كالقذف والشّرب مثلاً، فلا تداخل بينها عند غير المالكيّة، وأمّا عند المالكيّة فتتداخل، لاتّفاقها في القدر الواجب فيها، وهو الحدّ، فإنّ الواجب في القذف ثمانون جلدةً وفي الشّرب أيضاً مثله، فإذا أقيم عليه أحدهما سقط عنه الآخر‏.‏ ولو لم يقصد عند إقامة الحدّ إلاّ واحداً فقط، ثمّ ثبت أنّه شرب أو قذف، فإنّه يكتفي بما ضرب له عمّا ثبت‏.‏

ومثل ذلك عندهم - أي المالكيّة - ما لو سرق وقطع يمين آخر، فإنّه يكتفي فيه بحدّ واحد‏.‏ وهذا كلّه إذا لم يكن في تلك الحدود القتل، فإن كان فيها القتل، فإنّه يكتفي به عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، لقول ابن مسعود‏:‏ ما كانت حدود فيها قتل إلاّ أحاط القتل بذلك كلّه، ولأنّ المقصود الزّجر وقد حصل‏.‏ واستثنى المالكيّة من ذلك حدّ القذف، فقد ذكروا أنّه لا يدخل في القتل، بل لا بدّ من استيفائه قبله‏.‏

وأمّا الشّافعيّة فإنّهم لا يكتفون بالقتل، ولم يقولوا بالتّداخل في هذه المسألة، بل يقدّمون الأخفّ ثمّ الأخفّ، فمن سرق وزنى وهو بكر، وشرب ولزمه قتل بردّة، أقيمت عليه الحدود الواجبة فيها بتقديم الأخفّ ثمّ الأخفّ‏.‏

الحادي عشر‏:‏ تداخل الجزية

21 - ذهب أبو حنيفة إلى أنّ الجزية تتداخل كما إذا اجتمع على الذّمّيّ جزية عامين، فلا يؤخذ منه إلاّ جزية عام واحد، لأنّ الجزية وجبت عقوبةً للّه تعالى تؤخذ من الذّمّيّ على وجه الإذلال‏.‏ والعقوبات الواجبة للّه تعالى إذا اجتمعت، وكانت من جنس واحد، تداخلت كالحدود، ولأنّها وجبت بدلاً عن القتل في حقّهم وعن النّصرة في حقّنا، لكن في المستقبل لا في الماضي، لأنّ القتل إنّما يستوفى لحراب قائم في الحال، لا لحراب ماض، وكذا النّصرة في المستقبل لأنّ الماضي وقعت الغُنْية عنه‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد إلى أنّها لا تتداخل، ولا تسقط بمضيّ المدّة، لأنّ مضيّ المدّة لا تأثير له في إسقاط الواجب كالدّيون‏.‏

وأمّا خراج الأرض فقيل على هذا الخلاف، وقيل لا تداخل فيه بالاتّفاق‏.‏

وأمّا المالكيّة فإنّهم لم يصرّحوا بتداخل الجزية، ولكن يفهم التّداخل من قول أبي الوليد ابن رشد‏:‏ ومن اجتمعت عليه جزية سنين، فإن كان ذلك لفراره بها أخذت منه لما مضى، وإن كان لعسره لم تؤخذ منه، ولا يطالب بها بعد غناه‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏جزية‏)‏‏.‏

الثّاني عشر‏:‏ تداخل العددين في حساب المواريث

22 - العددان في حساب المواريث إمّا أن يكونا متماثلين، وإمّا أن يكونا مختلفين‏.‏

وفي حال اختلافهما إمّا أن يفنى الأكثر بالأقلّ، وإمّا أن يفنيهما عدد ثالث، وإمّا أن لا يفنيهما إلاّ واحد ليس بعدد، بل هو مبدؤه، فهذه أربعة أقسام‏.‏

وقد وقع التّداخل في القسم الثّاني منها، وهو ما إذا اختلفا وفني الأكثر بالأقلّ عند إسقاطه من الأكثر مرّتين فأكثر منهما، فيقال حينئذ‏:‏ إنّهما متداخلان، كثلاثة مع ستّة أو تسعة أو خمسة عشر، فإنّ السّتّة تفنى بإسقاط الثّلاثة مرّتين، والتّسعة بإسقاطها ثلاث مرّات، والخمسة عشر بإسقاطها خمس مرّات، لأنّها خمسها، وسمّيا متداخلين لدخول الأقلّ في الأكثر‏.‏ وحكم الأعداد المتداخلة‏:‏ أنّه يكتفى فيها بالأكبر ويجعل أصل المسألة‏.‏

أمّا في الأقسام الأخرى، وهي الأوّل والثّالث والرّابع، فلا تداخل بين العددين فيها، لأنّ العددين إن كانا متماثلين - كما في القسم الأوّل - فإنّه يكتفى بأحدهما، فيجعل أصلاً للمسألة كالثّلاثة والثّلاثة مخرجي الثّلث والثّلثين، لأنّ حقيقة المتماثلين إذا سلّط أحدهما على الآخر أفناه مرّةً واحدةً‏.‏ وإن كانا مختلفين، ولا يفنيهما إلاّ عدد ثالث - وهو القسم الثّالث - فهما متوافقان، ولا تداخل بينهما أيضاً، لأنّ الإفناء حصل بغيرهما، كأربعة وستّة بينهما موافقة بالنّصف، لأنّك إذا سلّطت الأربعة على السّتّة يبقى منهما اثنان، سلّطهما على الأربعة مرّتين تفنى بهما، فقد حصل الإفناء باثنين وهو عدد غير الأربعة والسّتّة، فهما متوافقان بجزء الاثنين وهو النّصف‏.‏

وحكم المتوافقين‏:‏ أن تضرب وفق أحدهما في كامل الآخر، والحاصل أصل المسألة‏.‏

وإن كانا مختلفين لا يفنى أكثرهما بأقلّهما ولا بعدد ثالث، بأن لم يفنهما إلاّ الواحد كما في القسم الرّابع فهما متباينان، ولا تداخل بينهما أيضاً كثلاثة وأربعة، لأنّك إذا أسقطت الثّلاثة من الأربعة يبقى واحد، فإذا سلّطته على الثّلاثة فنيت به‏.‏ وحكم المتباينين أنّك تضرب أحد العددين في الآخر‏.‏ والتّفصيل في باب حساب الفرائض، وينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏إرث‏)‏‏.‏

تدارك

التّعريف

1 - التّدارك‏:‏ مصدر تدارك، وثلاثيّه‏:‏ درك، ومصدره الدّرك بمعنى‏:‏ اللّحاق والبلوغ‏.‏ ومنه الاستدراك وللاستدراك في اللّغة استعمالان‏:‏

الأوّل‏:‏ أن يتستدرك الشّيء بالشّيء‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يتلافى ما فرّط في الرّأي أو الأمر من الخطأ أو النّقص‏.‏

وللاستدراك في الاصطلاح معنيان أيضاً‏:‏

الأوّل، للأصوليّين والنّحويّين‏:‏ وهو رفع ما يتوهّم ثبوته، أو إثبات ما يتوهّم نفيه‏.‏

والثّاني‏:‏ يرد في كلام الفقهاء‏:‏ وهو إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خلل أو قصور أو فوات‏.‏ وقد ورد في كلام الفقهاء التّعبير بالتّدارك في موضع الاستدراك، الّذي هو بمعنى فعل الشّيء المتروك بعد محلّه، سواء أترك سهواً أم عمداً، ومن ذلك قول الرّمليّ‏:‏ إذا سلّم الإمام من صلاة الجنازة، تدارك المسبوق باقي التّكبيرات بأذكارها‏.‏

وقوله‏:‏ لو نسي تكبيرات صلاة العيد فتذكّرها قبل ركوعه، أو تعمّد تركها بالأولى - وشرع في القراءة وإن لم يتمّ فاتحته - فاتت في الجديد فلا يتداركها‏.‏

ومن ذلك أيضاً ما ذكره البهوتيّ، من أنّه لو دفن الميّت قبل الغسل، وقد أمكن غسله، لزم نبشه، وأن يخرج ويغسّل، تداركاً لواجب غسله‏.‏

وعلى هذا يمكن تعريف التّدارك في الاصطلاح الفقهيّ بأنّه‏:‏ فعل العبادة، أو فعل جزئها إذا ترك المكلّف فعل ذلك في محلّه المقرّر شرعاً ما لم يفت‏.‏

وبالتّتبّع وجدنا الفقهاء لا يطلقون التّدارك إلاّ على ما كان استدراكاً في العبادة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - منها القضاء والإعادة والاستدراك، وكذلك الإصلاح في اصطلاح المالكيّة وقد سبق بيان معانيها، والتّفريق بينها وبين التّدارك في مصطلح ‏(‏استدراك‏)‏‏.‏

الحكم التّكليفي

3 - الأصل أنّ تدارك ركن العبادة المفروضة فرض، وذلك إن فات الرّكن لعذر - كنسيان أو جهل - مع القدرة عليه، أو فعل على وجه غير مجزئ‏.‏

ولا يحصل الثّواب المرتّب على الرّكن مع تركه، لعدم الامتثال‏.‏

ولا تصحّ العبادة إلاّ بالتّدارك‏.‏ فإن لم يتدارك الرّكن في الوقت الّذي يمكن تداركه فيه فسدت العبادة، ووجب الاستدراك باستئناف العبادة أو قضائها، بحسب اختلاف الأحوال‏.‏ وأمّا تدارك الواجبات والسّنن ففيه تفصيل‏.‏ ويتّضح ذلك من الأمثلة المختلفة،وبها يتبيّن الحكم‏.‏

التّدارك في الوضوء

أ - التّدارك في أركان الوضوء‏:‏

4 - أركان الوضوء يتحتّم الإتيان بها، فإن ترك غسل عضو من الثّلاثة أو جزءاً منه، أو ترك مسح الرّأس، فإنّه لا بدّ من تداركه، بالإتيان بالفائت من غسل أو مسح ثمّ الإتيان بما بعده، فمن نسي غسل اليدين، وتذكّره بعد غسل الرّجلين، لم يصحّ وضوءه حتّى يعيد غسل اليدين ويمسح برأسه ويغسل رجليه‏.‏

وهذا على قول من يجعل التّرتيب فرضاً في الوضوء، وهم الشّافعيّة، وعلى القول المقدّم عند الحنابلة‏.‏ أمّا من أجازوا الوضوء دون ترتيب، وهم الحنفيّة والمالكيّة، فيجزئ عندهم التّدارك بغسل المتروك وحده‏.‏ وإعادة ما بعده مستحبّ، وليس واجباً‏.‏

ولو ترك غسل اليمنى من اليدين أو الرّجلين، وتذكّره بعد غسل اليسرى، أجزأه غسل اليمنى فقط، ولا يلزمه غسل اليسرى اتّفاقاً، لأنّهما بمنزلة عضو واحد‏.‏

وإنّما يجزئ التّدارك بالإتيان بالفائت وما بعده، أو بالفائت وحده - على القولين المذكورين - إن لم تفت الموالاة عند من أوجبها، فإن طال الفصل، وفاتت الموالاة، فلا بدّ من إعادة الوضوء كلّه‏.‏ أمّا من لم يوجب الموالاة - وذلك مذهب الحنفيّة والشّافعيّة - فإنّه يجزئ عندهم التّدارك بغسل الفائت وحده‏.‏ وفي المسألة تفصيلات يرجع إليها في ‏(‏وضوء‏)‏‏.‏

ب - التّدارك في واجبات الوضوء‏:‏

5 - ليس للوضوء ولا للغسل واجبات عند بعض الفقهاء‏.‏

ومن واجبات الوضوء عند الحنابلة مثلاً التّسمية في أوّله - وليست ركناً في الوضوء عندهم - قالوا‏:‏ وتسقط لو تركها سهواً‏.‏ وإن ذكرها في أثناء الوضوء سمّى وبنى، أي فلا يلزمه الاستئناف‏.‏ قالوا‏:‏ لأنّه لمّا عفي عنها مع السّهو في جملة الطّهارة، ففي بعضها أولى‏.‏ وهو المذهب خلافاً لما صحّحه في الإنصاف‏.‏

ج - التّدارك في سنن الوضوء‏:‏

6 - أمّا سنن الوضوء فقد صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بعدم مشروعيّة تداركها إذا فات محلّها‏.‏ فيرى المالكيّة أنّ سنّة الوضوء يطالب بإعادتها لو نكّسها سهواً أو عمداً، طال الوقت أو قصر‏.‏ أمّا لو تركها بالكلّيّة عمداً أو سهواً - وذلك منحصر عندهم في المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين - قال الدّردير‏:‏ يفعلها استناناً دون ما بعدها طال التّرك أو لا‏.‏ وإنّما لم تجب إعادة ما بعده لندب ترتيب السّنن في نفسها، أو مع الفرائض‏.‏

والمندوب - كما قال الدّسوقيّ - إذا فات لا يؤمر بفعله لعدم التّشديد فيه، وإنّما يتداركها لما يستقبل من الصّلوات، لا إن أراد مجرّد البقاء على طهارة، إلاّ أن يكون بالقرب، أي بحضرة الماء وقبل فراغه من الوضوء‏.‏

وكذلك عند الشّافعيّة‏:‏ لو قدّم مؤخّراً، كأن استنشق قبل المضمضة - وهما عندهم سنّتان - قال الرّمليّ‏:‏ يحتسب ما بدأ به، وفات ما كان محلّه قبله على الأصحّ في الرّوضة، خلافاً لما في المجموع، أي فلا يتداركه بعد ذلك، وهذا قولهم في سنن الوضوء بصفة عامّة، فيحسب منها ما أوقعه أوّلاً، فكأنّه ترك غيره، فلا يعتدّ بفعله بعد ذلك‏.‏

لكن في التّسمية في أوّل الوضوء - وهي سنّة عندهم - قالوا‏:‏ إن تركها عمداً أو سهواً - أو في أوّل طعام أو شراب كذلك - يأتي بها في أثنائه تداركاً لما فاته، فيقول‏:‏ بسم اللّه أوّله وآخره، ولا يأتي بها بعد فراغه من الوضوء، بخلاف الأكل، فإنّه يأتي بها بعده‏.‏ وشبيه بهذا ما عند الحنفيّة‏.‏ حيث قالوا‏:‏ لو نسيها، فسمّى في خلال الوضوء لا تحصل السّنّة، بل المندوب، فيأتي بها لئلاّ يخلو وضوءه منها‏.‏ وأمّا في الطّعام فتحصل السّنّة في باقيه‏.‏ وهل تكون التّسمية أثناءه استدراكاً لما فات، فتحصل فيه، أم لا تحصل ‏؟‏‏.‏

قال شارح المنية‏:‏ الأولى أنّها استدراك، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أكل أحدكم فلْيذكر اسم اللّه تعالى، فإن نسي أن يذكرَ اسمَ اللّه في أوّله فليقل‏:‏ بسم اللّه أوّله وآخره»‏.‏وقال ابن عابدين‏:‏ إذا قال في الوضوء بسم اللّه أوّله وآخره، حصل استدراك السّنّة أيضاً، بدلالة النّصّ‏.‏

7- أمّا المضمضة والاستنشاق في الوضوء عند الحنابلة ففعلهما فرض، لأنّ الفم والأنف من أجزاء الوجه، وليسا من سنن الوضوء، ولذا فلا يجب التّرتيب فيما بينهما‏.‏

ويجب أن يتدارك المضمضة بعد الاستنشاق، أو بعد غسل الوجه، وحتّى بعد غسل سائر الأعضاء، إلاّ أنّه إن تذكّرهما بعد غسل اليدين تداركهما وغسل ما بعدهما كما تقدّم‏.‏

التّدارك في الغسل

8 - التّرتيب والموالاة في الغسل غير واجبين عند جمهور الفقهاء‏.‏

وقال اللّيث‏:‏ لا بدّ من الموالاة‏.‏ واختلف فيه عن الإمام مالك، والمقدّم عند أصحابه‏:‏ وجوب الموالاة، وفيه وجه لأصحاب الإمام الشّافعيّ‏.‏ فعلى قول الجمهور‏:‏ إذا توضّأ مع الغسل لم يلزم التّرتيب بين أعضاء الوضوء‏.‏ من أجل ذلك فإنّه لو ترك غسل عضو أو لمعة من عضو، سواء أكان في أعضاء الوضوء أم في غيرها، تدارك المتروك وحده بعد، طال الوقت أو قصر، ولو غسل بدنه إلاّ أعضاء الوضوء تداركها، ولم يجب التّرتيب بينها‏.‏ ومن أجل ذلك قال الشّافعيّة‏:‏ لو ترك الوضوء في الغسل، أو المضمضة أو الاستنشاق كره له، ويستحبّ له أن يأتي به ولو طال الفصل دون إعادة للغسل‏.‏

ويجب تداركهما عند الحنفيّة والحنابلة، إذ هما واجبان في الغسل عندهم، بخلافهما في الوضوء، فهما فيه سنّة عند الحنفيّة، وليسا بواجبين‏.‏

تدارك غسل الميّت

9 - عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لو دفن الميّت دون غسل، وقد أمكن غسله، لزم نبشه وأن يخرج ويغسّل، تداركاً لواجب غسله‏.‏ أي ما لم يخش تغيّره، كما صرّح به المالكيّة والشّافعيّة‏.‏ وكذلك تكفينه والصّلاة عليه يجب تداركهما بنبشه‏.‏ قال الدّردير‏:‏ وتدورك ندباً بالحضرة - وهي ما قبل تسوية التّراب عليه - ومثال المخالفة الّتي تتدارك‏:‏ تنكيس رجليه موضع رأسه، أو وضعه غير مستقبل القبلة، أو على ظهره، وكترك الغسل، أو الصّلاة عليه، ودفن من أسلم بمقبرة الكفّار، فيتدارك إن لم يخف عليه التّغيّر‏.‏

أمّا عند الحنفيّة‏:‏ فلا ينبش الميّت إذا أهيل عليه التّراب لحقّ اللّه تعالى، كما لو دفن دون غسل أو صلاة، ويصلّى على قبره دون غسل‏.‏

التّدارك في الصّلاة

10 - إذا ترك المصلّي شيئاً من صلاته، أو فعله على وجه غير مجزئ، فإنّ في مشروعيّة تداركه تفصيلاً‏:‏

أ - تدارك الأركان‏:‏

11 - إن كان المتروك ركناً، وكان تركه عمداً، بطلت صلاته حالاً لتلاعبه‏.‏ وإن تركه سهواً أو شكّ في تركه وجب تداركه بفعله، وإلاّ لم تصحّ الرّكعة الّتي ترك ركناً منها، فإنّ الرّكن لا يسقط عمداً ولا سهواً ولا جهلاً ولا غلطاً، ويعيد ما بعد المتروك لوجوب التّرتيب‏.‏ وفي كيفيّة تداركه اختلاف وتفصيل بين أصحاب المذاهب يرجع إليه في ‏(‏أركان الصّلاة وسجود السّهو‏)‏‏.‏ وقد يشرع سجود السّهو مع تداركه، على ما في سجود السّهو من الخلاف، في كونه واجباً أو مستحبّاً على ما هو مفصّل في سجود السّهو‏.‏

ب - تدارك الواجبات‏:‏

12 - ليس عند المالكيّة والشّافعيّة واجبات للصّلاة غير الأركان‏.‏

وعند الحنفيّة واجبات الصّلاة لا تفسد الصّلاة بتركها، بل يجب سجود السّهو إن كان تركه سهواً، وتجب إعادتها إن كان عمداً مع الحكم بإجزاء الأولى‏.‏

أمّا عند الحنابلة‏:‏ فواجبات الصّلاة - كالتّشهّد الأوّل، والتّكبير للانتقال، وتسبيح الرّكوع والسّجود - فإن ترك شيئاً من ذلك عمداً بطلت صلاته‏.‏ وإن تركه سهواً ثمّ تذكّره، فإنّه يجب تداركه ما لم يفت محلّه، بانتقاله بعده إلى ركن مقصود، إذ لا يعود بعده لواجب‏.‏ فيرجع إلى تسبيح ركوع قبل اعتدال لا بعده، ويرجع إلى التّشهّد الأوّل ما لم يشرع في قراءة الرّكعة الثّالثة‏.‏ ثمّ إن فات محلّ الواجب - كما لو شرع في القراءة من ترك التّشهّد الأوّل - لم يجز الرّجوع إليه‏.‏ وفي كلا الحالين يجب سجود السّهو‏.‏

ت - تدارك سنن الصّلاة‏:‏

13 - السّنن لا تبطل الصّلاة بتركها ولو عمداً، ولا تجب الإعادة، وإنّما حكم تركها‏:‏ كراهة التّنزيه، كما صرّح به الحنفيّة‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ إن نسي سنّةً من سنن الصّلاة يستدركها ما لم يفت محلّها، فلو ترك التّشهّد الأوسط، وتذكّر قبل مفارقته الأرض بيديه وركبتيه، يرجع للإتيان به، وإلاّ فقد فات‏.‏

وأمّا السّجود للسّهو بترك سنّة، فعندهم في ذلك تفصيلات يرجع إليها في‏(‏سجود السّهو‏)‏‏.‏ والسّنن عند الشّافعيّة نوعان‏:‏ نوع هو أبعاض يشرع سجود السّهو لتركها عمداً أو سهواً، كالقنوت، وقيامه، والتّشهّد الأوّل، وقعوده،والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه‏.‏ ونوع لا يشرع السّجود لتركه، كأذكار الرّكوع والسّجود، فإن سجد لشيء منها عامداً بطلت صلاته، لأنّه زاد على الصّلاة من جنس أفعالها ما ليس منها، إلاّ أن يعذر بجهله‏.‏

وعلى كلّ حال فلا يتدارك شيء من ذلك عندهم إذا فات محلّه، كالاستفتاح إذا شرع في القراءة‏.‏ وكذا عند الحنابلة لا تتدارك السّنن إذا فات محلّها، كما إذا ترك الاستفتاح حتّى تعوّذ، أو ترك التّعوّذ حتّى بسمل، أو ترك البسملة حتّى شرع في القراءة، أو ترك التّأمين حتّى شرع في السّورة‏.‏ لكن إن لم يكن استعاذ في الأولى عمداً أو نسياناً يستعيذ في الرّكعة الثّانية‏.‏ وليس ذلك من باب تدارك التّعوّذ الفائت، ولكن إنّما يستعيذ للقراءة الثّانية‏.‏

وكما لا تتدارك السّنن إذا فات محلّها، فكذلك لا يشرع السّجود لترك شيء منها سهواً أو عمداً، قوليّةً كانت أو فعليّةً، وإن سجد لذلك فلا بأس‏.‏

ث - تدارك المسبوق ما فاته من الصّلاة مع الجماعة‏:‏

14 - من جاء متأخّراً عن تكبيرة الإحرام، فدخل مع الإمام، لا يتدارك ما فاته من الرّكعة معه إن أدركه قبل الرّفع من الرّكوع، فإن أدركه في الرّفع من الرّكوع أو بعد ذلك فاتته الرّكعة ووجب عليه تداركها‏.‏

وفي ذلك تفصيل وأحكام مختلفة تنظر في صلاة الجماعة ‏(‏صلاة المسبوق‏)‏‏.‏

ج - تدارك سجود السّهو‏:‏

15 - لو نسي من سها في صلاته، ثمّ انصرف من غير أن يسجد للسّهو حتّى سلّم، ثمّ تذكّره عن قرب، يتداركه‏.‏ وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في باب ‏(‏سجود السّهو‏)‏‏.‏

ح - تدارك النّاسي للتّكبير في صلاة العيد‏:‏

16 - إذا نسي تكبيرات صلاة العيد حتّى شرع في القراءة، فاتت فلا يتداركها في الرّكعة نفسها، لأنّها سنّة فات محلّها، كما لو نسي الاستفتاح أو التّعوّذ، وهذا قول الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ولأنّه إن أتى بالتّكبيرات ثمّ عاد إلى القراءة، فقد ألغى القراءة الأولى، وهي فرض يصحّ أن يعتدّ به، وإن لم يعد إلى القراءة فقد حصلت التّكبيرات في غير محلّها‏.‏

لكن عند الشّافعيّة - كما قال الشبراملسي - يسنّ إذا نسي تكبيرات الرّكعة الأولى أن يتداركها في الرّكعة الثّانية مع تكبيراتها، كما في قراءة سورة ‏(‏الجمعة‏)‏ في الرّكعة الأولى من صلاة الجمعة، فإنّه إذا تركها فيها سنّ له أن يقرأها مع سورة ‏(‏المنافقون‏)‏ في الرّكعة الثّانية‏.‏ وعند الحنفيّة‏:‏ يتدارك التّكبيرات إذا نسيها، سواء أذكرها أثناء القراءة أم بعد القراءة أثناء الرّكوع‏.‏ فإن نسيها حتّى رفع رأسه من الرّكوع فاتت فلا يكبّر‏.‏

غير أنّه إن ذكر أثناء قراءة الفاتحة وبعدها، قبل أن يضمّ إليها السّورة، يعيد بعد التّكبير قراءة الفاتحة وجوباً، وإن ذكر بعد ضمّ السّورة كبّر ولم يعد القراءة، لأنّ القراءة تمّت فلا يحتمل النّقض‏.‏ وقول المالكيّة في هذه المسألة قريب من قول الحنفيّة، فإنّهم يقولون‏:‏ إنّ ناسي التّكبير كلّاً أو بعضاً يكبّر حيث تذكّر في أثناء القراءة أو بعدها ما لم يركع‏.‏ ويعيد القراءة استحباباً، ويسجد للسّهو، لأنّ القراءة الأولى وقعت في غير محلّها‏.‏ فإن ركع قبل أن يتذكّر التّكبير تمادى لفوات محلّ التّدارك، ولا يرجع للتّكبير، فإن رجع فالظّاهر البطلان‏.‏

خ - تدارك المسبوق تكبيرات صلاة العيد‏:‏

17 - عند الحنفيّة يتدارك المسبوق ما فاته من تكبيرات صلاة العيد، فيكبّر للافتتاح قائماً، فإن أمكنه أن يأتي بالتّكبيرات ويدرك الرّكوع فعل، وإن لم يمكنه ركع، واشتغل بالتّكبيرات وهو راكع عند أبي حنيفة ومحمّد، خلافاً لأبي يوسف، وإن رفع الإمام رأسه سقط عنه ما بقي من التّكبير، وإن أدركه بعد رفع رأسه قائماً لا يأتي بالتّكبير، لأنّه يقضي الرّكعة مع تكبيراتها‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ يتداركها إن أدرك القراءة مع الإمام، لا إذا أدركه راكعاً‏.‏ ثمّ إن أدركه في أثناء التّكبيرات يتابع الإمام فيما أدركه معه، ثمّ يأتي بما فاته‏.‏

ولا يكبّر ما فاته خلال تكبير الإمام‏.‏ وإن أدركه في القراءة كبّر أثناء قراءة الإمام‏.‏

وعند الشّافعيّة في الجديد، والحنابلة‏:‏ إن حضر المأموم، وقد سبقه الإمام بالتّكبيرات أو ببعضها، لم يتدارك شيئاً ممّا فاته، لأنّه ذكر مسنون فات محلّه‏.‏

وفي القديم عند الشّافعيّة يقضي،لأنّ محلّه القيام وقد أدركه‏.‏ قال الشّيرازيّ‏:‏ وليس بشيء‏.‏

التّدارك في الحجّ

أ - التّدارك في الإحرام‏:‏

18 - إن تجاوز الّذي يريد الحجّ الميقات دون أن يحرم، فعليه دم إن أحرم من مكانه‏.‏

لكن إن تدارك ما فاته بالرّجوع إلى الميقات والإحرام منه فلا دم عليه‏.‏

وهذا باتّفاق إن رجع قبل أن يحرم، أمّا إن أحرم من مكانه دون الميقات، ثمّ رجع إليه، فقد قيل‏:‏ يستقرّ الدّم عليه ولا ينفعه التّدارك‏.‏ وقيل‏:‏ ينفعه‏.‏

وفي ذلك تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلح ‏(‏إحرام‏)‏‏.‏

ب - التّدارك في الطّواف‏:‏

19 - إن ترك جزءاً من الطّواف المشروع، كما لو طاف داخل الحِجْر بعض طوافه، لم يصحّ حتّى يأتي بما تركه، قال الحنابلة وبعض الشّافعيّة‏:‏ في وقت قريب، لاشتراط الموالاة بين الطّوافات‏.‏

ولم يشترط البعض الموالاة، وممّن قال ذلك‏:‏ سائر الشّافعيّة، بل هو عندهم مستحبّ‏.‏ ونصّ الشّافعيّة على أنّه إن شكّ في شيء من شروط حجّه يجب التّدارك ما لم يتحلّل، ولا يؤثّر الشّكّ بعد الفراغ‏.‏

وعند الحنفيّة غير ابن الهمام‏:‏ الفرض في الطّواف أكثره - وهو أربع طوفات - وما زاد واجب، أمّا عند ابن الهمام فالسّبع كلّها فرض، كقول جمهور الفقهاء‏.‏ وعلى قول جمهور الحنفيّة إن ترك ثلاث طوفات من طواف الزّيارة أو أقلّ صحّ طوافه لفرضه، وعليه دم لما نقص من الواجب‏.‏ لكن إن تدارك فطاف الأشواط الباقية صحّ وسقط عنه الدّم، ولو كان طوافه بعد فترة، بشرط أن يكون إيقاع الطّوفات المتمّمة قبل آخر أيّام التّشريق‏.‏

وإن ترك الحاجّ طواف القدوم، أو تبيّن أنّه طاف للقدوم على غير طهارة، فلا يلزمه التّدارك عند الجمهور، لأنّه مستحبّ غير واجب بالنّسبة للمفرد، قال الشّافعيّة‏:‏ وفي فواته بالتّأخير - أي عن قدوم مكّة - وجهان، أصحّهما‏:‏ لا يفوت إلاّ بالوقوف بعرفة، وإذا فات فلا يقضى‏.‏ على أنّه ينبغي ملاحظة أنّ من ترك طواف القدوم، أو طافه ولم يصحّ له، كأن طافه محدثاً ولم يتداركه، فعليه إعادة السّعي عند كلّ من شرط لصحّة السّعي أن يتقدّمه الطّواف، وقد صرّح بذلك المالكيّة ‏(‏ر‏:‏ سعي‏)‏‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إن طاف للقدوم، أو تطوّعاً على غير طهارة، فعليه دم إن كان جنباً، لوجوب الطّواف بالشّروع فيه، وإن كان محدثاً فعليه صدقة لا غير‏.‏ ويمكنه التّدارك بإعادة الطّواف، فيسقط عنه الدّم أو الصّدقة‏.‏ والحكم عند الحنفيّة كذلك في طواف الوداع‏.‏ أمّا الرّمل والاضطباع في الطّواف فهما سنّتان في حقّ الرّجال، في الأشواط الثّلاثة الأولى من طواف القدوم خاصّةً، فلو تركهما فلا شيء عليه، ولا يشرع له تداركهما، ومثلهما ترك الرّمل بين الميلين ‏(‏الأخضرين‏)‏ في السّعي بين الصّفا والمروة‏.‏ وهذا مذهب الحنابلة، وهو الأصحّ أو الأظهر عند الشّافعيّة، وهو ظاهر كلام الحنفيّة، قال ابن الهمام‏:‏ إن ترك الرّمل في أشواط الطّواف الأولى لا يرمل بعد ذلك‏.‏ وقال المالكيّة، وهو قول خلاف الأظهر عند الشّافعيّة، وقول القاضي من الحنابلة‏:‏ أنّه يقضي الاضطباع في طواف الإفاضة‏.‏

ت - التّدارك في السّعي‏:‏

20 - الحاجّ المفرد إن لم يسع بعد طواف القدوم وجب عليه تدارك السّعي، فيسعى بعد طواف الإفاضة ولا بدّ، وإلاّ لم يصحّ حجّه عند الجمهور، لأنّ السّعي عندهم ركن‏.‏

وهو عند الحنفيّة، وفي قول القاضي من الحنابلة‏:‏ واجب فقط، فإن لم يتداركه يجبر بدم وحجّه تامّ‏.‏ وهذا إن كان المتروك السّعي كلّه أو أكثره، فإن كان المتروك ثلاثة أشواط أو أقلّ فليس عليه عند الحنفيّة إلاّ التّصدّق بنصف صاع عن كلّ شوط، وكلّ هذا عندهم إن كان التّرك بلا عذر، فإن كان بعذر فلا شيء عليه، وهذا في جميع واجبات الحجّ‏.‏

ولو سعى بين الصّفا والمروة فترك بعض الأشواط عمداً أو نسياناً، أو ترك في بعضها أن يصل إلى الصّفا أو إلى المروة لم يصحّ سعيه، ولو كان ما تركه ذراعاً واحداً، وعليه أن يتدارك ما فاته، ويمكن التّدارك بالإتيان بالبعض الّذي تركه ولو بعد أيّام‏.‏

ولا يلزمه إعادة السّعي كلّه، لأنّ الموالاة غير مشترطة فيه بخلاف الطّواف بالبيت‏.‏

وقيل‏:‏ هي مشترطة في السّعي أيضاً، وهو أحد قولي الشّافعيّة‏.‏

ومثل ذلك‏:‏ ما لو سعى مبتدئاً بالمروة، فإنّ الشّوط الأوّل لا يعتبر، لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الصَّفَا والمروةَ منْ شعائرِ اللّهِ‏}‏ الآية ثمّ قال‏:‏ نبدأ بما بدأ اللّه به» وفي رواية «ابدءوا بما بدأ اللّه به»‏.‏

ث - الخطأ في الوقوف‏:‏

21 - إذا وقف الحجيج يوم العاشر من شهر ذي الحجّة، وتبيّن خطؤهم، فالحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّه أجزأهم الوقوف ولا يعيدون، دفعاً للحرج الشّديد، وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّه يجزئهم الوقوف إلاّ أن يقلّوا على خلاف العادة في الحجيج، فيقضون هذا الحجّ في الأصحّ، لأنّه ليس في قضائهم مشقّة عامّة‏.‏

أمّا إذا وقفوا في اليوم الثّامن، ثمّ علموا بخطئهم، وأمكنهم التّدارك قبل الفوات، أعادوا عند الجمهور ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، وهو رواية أيضاً عند الحنابلة‏)‏ والرّواية الأخرى عند الحنابلة أنّه يجزئهم الوقوف دون تدارك، لأنّهم لو أعادوا الوقوف لتعدّد، وهو بدعة، كما قال الشّيخ ابن تيميّة‏.‏

أمّا لو علموا بخطئهم، بحيث لا يمكنهم التّدارك، للفوات، فالحكم في المعتمد عند المالكيّة، والأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه لا يجزئهم هذا الوقوف، ويجب عليهم القضاء لهذا الحجّ‏.‏ وفرّقوا بين تأخير العبادة عن وقتها وتقديمها عليه بأنّ التّأخير أقرب إلى الاحتساب من التّقديم، وبأنّ اللّفظ في التّقديم يمكن الاحتراز عنه، لأنّه يقع الغلط في الحساب، أو الخلل في الشّهود الّذين شهدوا بتقديم الهلال، والغلط بالتّأخير قد يكون بالغيم المانع من رؤية الهلال، ومثل ذلك لا يمكن الاحتراز عنه‏.‏ وهذا أحد التّخريجين عن الحنفيّة‏.‏

وعند الحنابلة، وهو التّخريج الآخر عند الحنفيّة‏:‏ أنّه يجزئهم، ولا قضاء عليهم، لأنّ الوقوف مرّتين في عام واحد بدعة - كما يقول الحنابلة - ولأنّ القول بعدم الإجزاء فيه حرج بيّن - كما يقول الحنفيّة -‏.‏

ج - التّدارك في وقوف عرفة‏:‏

22 - لو ترك الحاجّ الوقوف بعرفة عمداً أو نسياناً أو جهلاً حتّى طلع فجر يوم النّحر لم يصحّ حجّه، فلا يمكن التّدارك بعد ذلك، وعليه أن يحلّ بعمرة‏.‏

ولو وقف نهاراً، ثمّ دفع قبل الغروب، فقد أتى بالرّكن، وترك واجب الوقوف في جزء من اللّيل، فيكون عليه دم وجوباً عند الحنفيّة والحنابلة، وهو قول عند الشّافعيّة‏.‏

لكنّ الرّاجح عند الشّافعيّة استحباب إراقة الدّم، لأنّ أخذ جزء من اللّيل على هذا القول سنّة لا غير، وإنّما يستحبّ الدّم خروجاً من خلاف من أوجبه‏.‏

ولو تدارك ما فاته بالرّجوع إلى عرفة قبل غروب الشّمس، وبقي إلى ما بعد الغروب سقط عنه الدّم اتّفاقاً‏.‏ ولو رجع بعد الغروب وقبل طلوع الفجر سقط عنه الدّم عند الجمهور، خلافاً للحنفيّة، لأنّ الدّم عندهم لزمه بالدّفع من عرفة، فلا يسقط بالرّجوع إليها‏.‏

أمّا عند المالكيّة فلا يدفع الحاجّ من عرفة إلاّ بعد غروب الشّمس، فإن دفع قبل الغروب فعليه العود ليلاً ‏(‏تداركاً‏)‏ وإلاّ بطل حجّه‏.‏

ح - تدارك الوقوف بالمزدلفة‏:‏

23 - عند الشّافعيّة والحنابلة الوجود بمزدلفة واجب ولو لحظةً، بشرط أن يكون ذلك في النّصف الثّاني من اللّيل بعد الوقوف بعرفة، ولا يشترط المكث، بل يكفي مجرّد المرور بها‏.‏ ومن دفع من مزدلفة قبل منتصف اللّيل، وعاد إليها قبل الفجر فلا شيء عليه، لأنّه أتى بالواجب، فإن لم يعد بعد نصف اللّيل حتّى طلع الفجر فعليه دم على الأرجح‏.‏

أمّا عند الحنفيّة‏:‏ فيجب الوقوف بمزدلفة بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس، وعليه أن يقف في ذلك الوقت ولو لحظةً، فإن ترك الوقوف لعذر فلا شيء عليه، والعذر كأن يكون به ضعف أو علّة أو كانت امرأة تخاف الزّحام، وإن أفاض من مزدلفة قبل ذلك لا لعذر فعليه دم‏.‏ وظاهر أنّه إن تدارك الوقوف بالرّجوع إلى مزدلفة قبل طلوع الشّمس سقط عنه الدّم‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ النّزول بمزدلفة بقدر حطّ الرّحال - وإن لم تحطّ بالفعل - واجب، فإن لم ينزل بها بقدر حطّ الرّحال حتّى طلع الفجر فالدّم واجب عليه إلاّ لعذر، فإن ترك النّزول لعذر فلا شيء عليه‏.‏

خ - تدارك رمي الجمار‏:‏

24 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ من ترك رمي يوم أو يومين - عمداً أو سهواً - تداركه في باقي أيّام التّشريق على الأظهر، ويكون ذلك أداءً، وفي قول قضاءً، ولا دم مع التّدارك‏.‏ ومذهب الحنفيّة‏:‏ أنّ من أخّر الرّمي في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق إلى اللّيل، فرمى قبل طلوع الفجر جاز ولا شيء عليه، لأنّ اللّيل وقت للرّمي في أيّام الرّمي‏.‏ وأمّا رمي جمرة العقبة، فمذهب أبي حنيفة أنّه يمتدّ إلى غروب الشّمس، فإن لم يرم حتّى غربت الشّمس، فرمى قبل طلوع الفجر من اليوم الثّاني أجزأه، ولا شيء عليه‏.‏

ومذهب المالكيّة‏:‏ أنّ تأخير الرّمي إلى اللّيل يكون تداركه قضاءً، وعليه دم واحد‏.‏

د - تدارك طواف الإفاضة‏:‏

25 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏:‏ أنّ من طاف بعد عرفة طوافاً صحيحاً - سواء أكان واجباً أم نفلاً - وقع عن طواف الإفاضة وإن لم ينوه‏.‏

أمّا من ترك الطّواف بعد عرفة، وخرج إلى بلده، فعليه أن يرجع محرماً ليطوف طواف الإفاضة، ويبقى محرماً بالنّسبة إلى النّساء حتّى يطوف طوافاً صحيحاً‏.‏

وهناك تفصيلات في بعض المذاهب يرجع إليها في الحجّ‏.‏ ومذهب الحنابلة‏:‏ أنّه من ترك طواف الإفاضة، لكنّه طاف طواف الصّدر ‏(‏الوداع‏)‏ أو طواف نفل، وقع الطّواف عمّا نواه، ولا يقع عن طواف الإفاضة، حتّى لو رجع إلى بلده بعد هذا الطّواف عليه أن يرجع محرماً، ليطوف طواف الإفاضة لأنّه ركن، ويبقى محرماً أيضاً بالنّسبة إلى النّساء‏.‏

ذ - تدارك طواف الوداع‏:‏

26 - طواف الوداع واجب على غير الحائض يجبر تركه بدم، ولو كان تركه لنسيان أو جهل، وهذا قول الحنابلة، وهو أحد قولي الشّافعيّة‏.‏

والثّاني عندهم‏:‏ هو سنّة لا يجب جبره، فعلى قول الوجوب قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إن خرج بلا وداع وجب عليه الرّجوع لتداركه إن كان قريباً، أي دون مسافة القصر، فإن عاد قبل مسافة القصر فطاف للوداع سقط عنه الإثم والدّم، وإن تجاوز مسافة القصر استقرّ عليه الدّم، فلو تداركه بعدها لم يسقط الدّم، وقيل‏:‏ يسقط‏.‏

وعند الحنفيّة‏:‏ طواف الوداع واجب، ويجزئ عنه ما لو طاف نفلاً بعد إرادة السّفر، فإن سافر ولم يكن فعل ذلك وجب عليه الرّجوع لتداركه ما لم يجاوز الميقات، فيخيّر بين إراقة الدّم وبين الرّجوع بإحرام جديد بعمرة، فيبتدئ بطوافها ثمّ بطواف الوداع، فإن فعل ذلك فلا شيء عليه لتأخيره‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ طواف الوداع مندوب، فلو تركه وخرج، أو طافه طوافاً باطلاً يرجع لتداركه ما لم يخف فوت رفقته الّذين يسير بسيرهم، أو خاف منعاً من الكراء أو نحو ذلك‏.‏

تدارك المجنون والمغمى عليه للعبادات

أوّلاً‏:‏ بالنّسبة للصّلاة

27 - لا تدارك لما فات من صلاة حال الجنون أو الإغماء عند المالكيّة والشّافعيّة لعدم الأهليّة وقت الوجوب، لقول النّبيّ‏.‏ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رفع القلم عن ثلاثة‏:‏ عن النّائمِ حتّى يستيقظَ، وعن الصّبيّ حتّى يشبّ، وعن المعتوه حتّى يَعْقِل»‏.‏

وعند الحنفيّة إن جنّ أو أغمي عليه خمس صلوات - أو ستّاً على قول محمّد - قضاها، وإن جنّ أو أغمي عليه أكثر من ذلك فلا قضاء عليه نفياً للحرج، وقال بشر‏:‏ الإغماء ليس بمسقط، ويلزمه القضاء وإن طالت مدّة الإغماء‏.‏

وفرّق الحنابلة بين الجنون والإغماء، فلم يوجبوا القضاء على ما فات حال الجنون، وأوجبوه فيما فات حال الإغماء، لأنّ الإغماء لا تطول مدّته غالباً، ولما روي أنّ عمّاراً رضي الله عنه أغمي عليه ثلاثاً، ثمّ أفاق فقال‏:‏ هل صلّيتُ ‏؟‏ قالوا‏:‏ ما صلّيتَ منذ ثلاث، ثمّ توضّأ وصلّى تلك الثّلاث‏.‏ وعن عمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهما نحوه، ولم يعرف لهم مخالف، فكان كالإجماع‏.‏

28 - ومن أدرك جزءاً من الوقت وهو أهل ثمّ جنّ أو أغمي عليه، فإن كان ما أدركه لا يسع الفرض فلا يجب عليه القضاء عند الحنفيّة والمالكيّة، وهو المذهب عند الشّافعيّة‏.‏ وعند الحنابلة يجب عليه القضاء‏.‏ وإن كان ما أدركه يسع الفرض فعند الحنفيّة لا يجب القضاء، لأنّ الوجوب يتعيّن في آخر الوقت إذا لم يوجد الأداء قبله، فيستدعي الأهليّة فيه لاستحالة الإيجاب على غير الأهل، ولم يوجد، فلم يكن عليه القضاء، وهو أيضاً رأي المالكيّة خلافاً لبعض أهل المدينة وابن عبد البرّ، حيث القضاء عندهم أحوط‏.‏

وعند الشّافعيّة والحنابلة يجب عليه القضاء،لأنّ الوجوب يثبت في أوّل الوقت فلزم القضاء‏.‏ 29 - وإن أفاق المجنون أو المغمى عليه في آخر الوقت فللحنفيّة قولان‏:‏

أحدهما، وهو قول زفر‏:‏ لا يصبح مدركاً للفرض إلاّ إذا بقي من الوقت مقدار ما يمكن فيه أداء الفرض‏.‏

والثّاني، للكرخيّ وأكثر المحقّقين، وهو المختار‏:‏ أنّه يجب الفرض ويصير مدركاً إذا أدرك من الوقت ما يسع التّحريمة فقط، وهو قول الحنابلة وبعض الشّافعيّة‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ يجب الفرض إذا بقي من الوقت مقدار ركعة من زمن يسع الطّهر، وهو قول بعض الشّافعيّة‏.‏ وفي قول آخر للشّافعيّة‏:‏ إذا بقي مقدار ركعة فقط‏.‏

ثانياً‏:‏ بالنّسبة للصّوم

30 - إذا استوعب الجنون شهر رمضان بأكمله فلا قضاء على المجنون سواء، أكان الجنون أصليّاً أم عارضاً عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، لحديث‏:‏ «رفع القلم عن ثلاث‏.‏‏.‏‏.‏» وإذا استوعب الإغماء الشّهر كلّه وجب القضاء على المغمى عليه إلاّ عند الحسن البصريّ، ودليل وجوب القضاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمنْ كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فَعِدَّةٌ من أيَّامٍ أُخَر‏}‏ والإغماء مرض‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ يجب القضاء على المجنون بعد إفاقته للآية السّابقة، والجنون مرض، وعن الإمام أحمد مثل ذلك بالنّسبة للمجنون‏.‏

وإن أفاق المجنون في أيّ يوم من أيّام الشّهر كان عليه قضاء ما مضى من الشّهر استحساناً عند الحنفيّة، والقياس أنّه لا يلزمه، وهو قول زفر‏.‏

وفرّق محمّد فقال‏:‏ لا قضاء لما فات في الجنون الأصليّ، ويجب القضاء إذا كان الجنون عارضاً‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة لا قضاء لما فات زمن الجنون للحديث المتقدّم - ويجب القضاء عند المالكيّة‏.‏ ويجب القضاء على المغمى عليه لما فات عند الجميع‏.‏

31 - أمّا اليوم الّذي جنّ أو أغمي عليه فيه، فإنّه يعتبر مدركاً لصيام هذا اليوم إن كان نوى الصّيام من اللّيل، ولا قضاء عليه، وهذا عند الحنفيّة‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ إن جنّ أو أغمي عليه بعد الفجر، واستمرّ الجنون أو الإغماء أكثر اليوم فعليه القضاء، وإن كان بعد الفجر ولم يستمرّ نصف يوم فأقلّ أجزأه، ولا قضاء عليه‏.‏ وإن كان الإغماء أو الجنون مع الفجر أو قبله فالقضاء مطلقاً، لزوال العقل وقت النّيّة‏.‏ وعند الشّافعيّة في الأظهر، وهو قول الحنابلة‏:‏ أنّ الإغماء لا يضرّ صومه إذا أفاق لحظةً من نهار، أيّ لحظة كانت، اكتفاءً بالنّيّة مع الإفاقة في جزء‏.‏

والثّاني للشّافعيّة‏:‏ يضرّ مطلقاً، والثّالث‏:‏ لا يضرّ إذا أفاق أوّل النّهار‏.‏

وإن نوى الصّوم ثمّ جنّ ففيه قولان‏:‏ في الجديد يبطل الصّوم، لأنّه عارض يسقط فرض الصّلاة فأبطل الصّوم، وقال في القديم‏:‏ هو كالإغماء‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ الجنون كالإغماء يجزئ صومه إذا كان مفيقاً في أيّ لحظة منه مع تبييت النّيّة‏.‏

32 - أمّا اليوم الّذي تحدث فيه الإفاقة من الجنون أو الإغماء، فعند الحنفيّة‏:‏ أن المجنون جنوناً عارضاً لو أفاق في النّهار قبل الزّوال، فنوى الصّوم أجزأه‏.‏ وفي الجنون الأصليّ خلاف، ويجزئ في الإغماء بلا خلاف‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ إن أفاق قبل الفجر أجزأ ذلك اليوم عن الصّيام بالنّسبة للمجنون والمغمى عليه، وإن كانت الإفاقة بعد الفجر فهو على التّفصيل السّابق‏.‏

وعند الشّافعيّة‏:‏ إن أفاق المجنون في النّهار فعلى الأصحّ لا قضاء عليه، ويستحبّ له الإمساك، وهذا في وجه‏.‏ وفي الوجه الثّاني‏:‏ يجب القضاء، أمّا المغمى عليه فإذا أفاق أجزأه‏.‏ وعند الحنابلة في قضاء اليوم الّذي أفاق فيه المجنون وإمساكه روايتان، أمّا المغمى عليه فيصحّ صومه إن أفاق في جزء من النّهار‏.‏

ثالثاً‏:‏ بالنّسبة للحجّ

33 - من أحرم بالحجّ، وطرأ عليه جنون أو إغماء ثمّ أفاق منه قبل الوقوف بعرفة، ووقف، أجزأه الحجّ باتّفاق‏.‏ وكذلك من لم يحرم بالحجّ لجنون أو إغماء، ولكنّه أفاق من قبل الوقوف، وأحرم ووقف بعرفة أجزأه، على تفصيل في وجوب الجزاء عليه‏.‏

ومثل ذلك أيضاً المجنون الّذي أحرم عنه وليّه، أو المغمى عليه - عند من يقول بجواز الإحرام عنه كالحنفيّة وبعض الشّافعيّة - إذا أفاقا قبل الوقوف ووقفا أجزأهما الحجّ، ومن وقف بعرفة وهو مجنون أو مغمًى عليه بعد أن أحرم وهو مفيق، أو أحرم وليّه عنه فعند المالكيّة وبعض الشّافعيّة‏:‏ كان حجّهما صحيحاً، مع الاختلاف بين وقوعه فرضاً أو نفلاً‏.‏ وعند الحنفيّة كان حجّ المغمى عليه صحيحاً، وفي المجنون خلاف‏.‏

وينظر تفصيل جميع ما مرّ في العبادات في‏:‏ ‏(‏صلاة، صوم، حجّ، جنون، إغماء‏)‏‏.‏

تدارك المريض العاجز عن الإيماء

34 - من عجز عن الإيماء في الصّلاة برأسه لركوعه وسجوده أومأ بطرفه ‏(‏عينه‏)‏ ونوى بقلبه، لحديث عليّ رضي الله عنه‏:‏ «يصلّي المريض قائماً، فإن لم يستطع صلّى جالساً، فإن لم يستطع صلّى على جنبه مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلّى مستلقياً على قفاه، ورجلاه إلى القبلة، وأومأ بطرفه»‏.‏ وهذا متّفق عليه بين الفقهاء‏.‏ فإن عجز عن الإيماء بطرفه أومأ بأصبعه، فإن لم يستطع أتى بالصّلاة بقدر ما يطيق ولو بنيّة أفعالها، ولا تسقط عنه أبداً ما دام معه شيء من عقل، ويأتي بالصّلاة بأن يقصد الصّلاة بقلبه مستحضراً الأفعال والأقوال إن عجز عن النّطق، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسَاً إلاّ وسْعَها‏}‏‏.‏

وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة‏.‏

وعند الحنفيّة غير زفر‏:‏ الإيماء يكون بالرّأس فقط ولا يكون بعينيه أو جبينه أو قلبه، لأنّ فرض السّجود لا يتأتّى بهذه الأشياء، بخلاف الرّأس لأنّه يتأدّى به فرض السّجود، فمن عجز عن الإيماء برأسه أخّر الصّلاة، وإن مات على ذلك الحال لا شيء عليه، وإن برأ فالصّحيح أنّه يلزمه قضاء يوم وليلة لا غير نفياً للحرج‏.‏

تدارك النّاسي والسّاهي

35 - النّسيان أو السّهو إن وقع في ترك مأمور لم يسقط، بل يجب تداركه‏.‏ فمن نسي صلاةً أو صوماً أو زكاةً أو كفّارةً أو نذراً وجب عليه الأداء إن أمكن، أو أن يتداركه بالقضاء بلا خلاف، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ نسي صلاةً أو نام عنها، فكفّارتُها أن يصلّيها إذا ذَكَرَها»‏.‏

وتكون الصّلاة أداءً إذا أدّى منها ركعةً في الوقت، أو التّحريمة على الخلاف في ذلك‏.‏

وإذا فات الوقت تداركها بالقضاء‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏صلاة، صوم، زكاة‏)‏‏.‏

تدارك من أفسد عبادةً شرع فيها من صلاةٍ أو صومٍ أو حجٍ

36 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من أفسد عبادة مفروضة وجب عليه أداؤها إن كان وقتها يسعها كالصّلاة، أو القضاء إن خرج الوقت أو كان لا يسعها كالصّلاة إن خرج الوقت، وكالصِّيام والحجّ لعدم اتساع الوقت‏.‏

أما التطوع بالعبادة فإنها تلزم بالشّروع فيه عند الحنفية والمالكية، ويجب إتمامها، وعند الشافعية والحنابلة‏:‏ لا تجب بالشّروع، ويستحب الإتمام فيما عدا الحجّ والعمرة فيلزمان بالشّروع، ويجب إتمامهما، وعلى ذلك فمن دخل في عبادة تطوّع وأفسدها وجب عليه قضاؤها عند الحنفية والمالكية لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم‏}‏‏.‏

ولا يجب القضاء عند الشافعية والحنابلة في غير الحجّ والعمرة لما روت «عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هل عندك شيء ‏؟‏ فقلت‏:‏ لا، فقال‏:‏ إنّي إذاً أصوم، ثم دخل عليَّ يوماً آخر فقال‏:‏ هل عندك شيء ‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم، فقال‏:‏ إذاً أفطر، وإن كنت قد فرضت الصوم»‏.‏

أما الحجّ والعمرة فيجب قضاؤهما إذا أفسدهما، لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظيمة، ولهذا يجبان بالشّروع‏.‏

تدارك المرتدّ لما فاته

37 - ما فات المرتدّ من العبادات أيّام الرّدّة لا يجب عليه قضاؤه، إذا تاب ورجع إلى الإسلام، لأنّه غير مخاطب بفروع الشّريعة، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَد سَلَف‏}‏، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الإسلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَه»‏.‏ وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وعند الشّافعيّة يجب عليه قضاء ما فاته أيّام ردّته من عبادات، لأنّ المرتدّ كان مقرّاً بإسلامه ولأنّه لا يستحقّ التّخفيف‏.‏

38 - وما فاته أيّام إسلامه من عبادات قبل ردّته وحال إسلامه، يجب عليه قضاؤه بعد توبته من الرّدّة، لاستقرار هذه العبادات عليه حال إسلامه، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ لا يطالب بما فاته قبل ردّته، فالرّدّة تسقط ما كان عليه من صلاة وصيام إلاّ الحجّ الّذي تقدّم منه، فإنّه لا يبطل، ويجب عليه إعادته إذا أسلم، لبقاء وقته وهو العمر‏.‏

39 - وإذا رجع المرتدّ إلى الإسلام وأدرك وقت صلاة، أو أدرك جزءاً من رمضان وجب عليه أداؤه‏.‏